فؤاد ميرزا
04 May
04May


*          طرق صديقي عدنان الباب في اللحظة التي كدت فيها اسقط في غفوة نوم  قيلولة عميقة ممتعة.. أحدث بدخوله وطوافه في الغرفة من الضجيج ما يكفي لإيقاظ أهل الكهف. بحث في الثلاجة عن شيء يأكله أو يشربه, فعثر على قنينة بيرة  نسيتها أنا منذ زيارته السابقة لي قبل شهور.. جلس إلى الطاولة  واضعاً كعادته رجله اليمنى فوق رجله اليسرى.. ثم بحركة سريعة مستخدماً  فاتحة القناني التي لا تفارق جيبه..  فتح قنينة البيرة بصوت (بوب) مسموع,  وأخذ يشرب (بقرقرة) وكنت أسمع  البيرة واحس ببرودتها تهبط إلى معدتة وتريحها. كانت معه علبة سجائر من نوع الجمل , وفهمت من طريقة سحقه للعلبة بأنها كانت آخر سجارة. بلل شفتيه ثم وضع السجارة  في فمه واحرق رأسها بطريقة طقسية اعتاد  تمثيلها . أخذ رشفة عميقة من الدخان.. حبسه في صدرة لدقيقة كاملة.. ثم اطلقه  وأخذ يسعل ودموعه تنهمر  وخيط من اللعاب صمغي أصفر اللون يتدلى من طرف شفته السفلى... 


قال: اعرف بأنك تكتب في الصحف, واعرف بأنك  لا تشرب الكحول ولا تدخّن وتنام القيلولة من الساعة الثالثة إلى الخامسة. . لماذا لا تكتب في المجلة التي تعمل فيها قصتي؟.. ثم استطرد بعد أن ضرب جبهتة بكفه: عفوا, نسيت بأنك لا تعمل في أي مجلة ولكنك تكتب قصصاً وهذا هو المهم .. اكتب هذه القصة, قصتي:
 حينما بلغت عمر الحلم بعد العاشرة بشهور قليلة.. تزوجتني إمرأة أرملة قريبة من عائلتي  من مدينة الكوفة.. إسمها يمامة (قابلة مأذونة)  في الأربعين من العمر, نحيفة جداً وداكنة العتمة ليس فيها مايمتع غير جمال روحها المتأججة بالأمومّة والحنان .. كانت (يمامة)  والتي أمست زوجتي, تشفق عليّ وتعاملني كطفل, تحميني من تجاوزات الصبيان  وتحممني بعد عودتي متهالكاً من الأطيان والأتربة..  تطعمني من شوربة مألوفة المذاق متجانسة من بقايا اللحم والعظم  التي تجمعها من  محلات جزاري سوق الصدرية..  وكانت هناك أرغفة خبز من شعير, وبصل وخضار وفاكهة نصفها غير تالف... إلى جانب ذلك..كانت زوجتي تخيط لي كل أرديتي  وتعتني بي خلال النهار  كأمّ حقيقية, أما في الليل ففي زاوية الغرفة المؤجرة التي كانت بمثابة بيتنا والتي لم تكن تحتوي من الأثاث غير بساط وجرّة وبريمز وعدد من الآنية, تستسلم لي تلك المرأة كقطة خانعة حوصرت في زاوية.. ما من مهرب.. غير مواجه مخالبي المخبولة  .. حينما أُرهق , أنام في حجرها  كما لو كان حجر أمي.. بعد أعوام قليلة,  ماتت زوجتي وبقيت أبحث طيلة حياتي عن إمرأة تملأ ذلك الفراغ الذي خلفّته (يمامة) في حياتي. هل تسمعني..لا زلت ابحث عن إمرأة تعتني بي كيمامة.. هل نمت؟ 


اتصنع النوم لأني سمعت تلك القصة عشرات المرات.   يبحث  عدنان في الغرفة فيعثر على عدد من كتبي المركونة في الزاوية بعضها (المغلف) اشتريته هذا اليوم.  يضعها تحت إبطه.. ثم يخرج بهدوء  متمتماً:  البيرة المثلجة تُسكر الجائع بلا شك.. أما عن الكتب فسأشتري لك ما يساوي ثمنها حينما أعثر على عانس ثرية تتزوجني  وتخلصني من فقري المعتق هذا..
 إلى اللقاء يا صديقي غير الودود. 
يصفق (طفل يمامة) الباب بقوة وبحنق.
أبتسم متمتماً مع نفس وكأنني أحدثه: ( كانت يمامة هي جائزة حياتك.. لن تعثر على مثلها قط !).


----------
اللوحة للفنان الإنجليزي فرانسيس بيكون

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.